مياه الشرق الأوسط وشمال أفريقيا

المياه في السودان: سبب للصراع وحل محتمل

المياه السودان
الصورة 1: مواطنون يملؤون براميل بالمياه في جنوب الخرطوم في 22 أبريل 2023، وسط نقص المياه الناجم عن المعارك المستمرة بين قوات اثنين من الجنرالات السودانيين المتنافسين. قُتل مئات الأشخاص وأصيب الآلاف منذ اندلاع القتال في 15 أبريل بين القوات الموالية لقائد الجيش السوداني ونائبه الذي يقود قوات الدعم السريع شبه العسكرية القوية. المصدر: AFP

الكاتبة: بوران عوض كبيرة مهندسي الموارد المائية في مجموعة نيوتك الاستشارية في السودان. وهي متخصصة في تطوير البنية التحتية للمياه ودراسات الأمن المائي، وهي تعمل أيضًا كخبيرة في مؤسسة CIMA للأبحاث.

مقدمة

قد ألقى الاضطراب السياسي المزمن في السودان والصراع الذي اتسعت رقعته بظلاله على محاولات الإصلاح المؤسسي. وقد تفاقمت الأزمة بفعل “لعنة الموارد”، وهي معضلة تشير إلى وضع بلد معين يعاني اقتصادياً رغم وفرة الموارد الطبيعية. ويُعد قطاع المياه الأكثر تقلباً في السودان. فالمياه ركن حيوي واستراتيجي، وهي أحد أسباب الصراع العسكري المتواصل في السودان، وهي أيضاً إحدى ضحاياه. نرصد في هذه المقالة دور موارد المياه في تاريخ السودان المنكوب بالصراعات. كما نتطرق إلى تداعيات تلك الصراعات على إدارة الموارد المائية، ونسلط الضوء على الهياكل المؤسسية والقانونية الهشة وضعف الحوكمة. بالإضافة إلى ذلك، تستكشف المقالة الديناميكيات المعقدة لتطوير البنية التحتية للمياه والتي قد تكون أساساً يحفظ الاستقرار أو سبباً يدفع إلى الصراع. وختاماً، تتناول المقالة أهمية الحفاظ على التوازن الدقيق بين مبدأي “التزام النفع” و”تجنب الضرر” في كل ما يتعلق بالتخطيط لإدارة البنية التحتية للمياه في مناطق الصراع والاضطراب.

خلفية

قد أثرت الاضطرابات الأخيرة التي حدثت بسبب الصراعات بين أطراف الحكومة العسكرية السودانية تأثيراً كبيراً في حياة آلاف السودانيين في العاصمة الخرطوم ومناطق أخرى. وقد أخذ السودانيون يبحثون عن ملاذ في الدول والولايات المجاورة لتعذر الوصول إلى الخدمات الأساسية. ولما كان للخرطوم دور مركزي في التجارة والصناعة والتشريع، فقد نتج عن الأزمة الأخيرة تداعيات واسعة النطاق، لا سيما على الموارد المائية. وتثبت هذه الاضطرابات أهمية التوصل إلى خطط فعالة لإتمام الإصلاحات المؤسسية والتشريعية اللازمة في كل ولاية على حدة وفي سائر البلاد.

وقد حالت الاضطرابات السياسية في السودان دون إنفاذ الإصلاحات المؤسسية التي تحتاجها البلاد، ومنها انفصال جنوب السودان عام 2011 الذي قد فاقم الأزمة الاقتصادية. ويعاني السودان أيضاً من صراعات عرقية وتوترات اجتماعية كبلت جهود الحكومات المتعاقبة حتى بات تحرر البلاد من لعنة الموارد أقرب إلى المستحيل. وقد كان للموارد المائية على مدار تاريخ السودان دور مهم في الاضطرابات السياسية والنزاعات المسلحة. وغنى عن البيان أن قطاع المياه هو أحد أهم القطاعات الاستراتيجية في أي دولة. و في السودان، فتُعد المياه سبباً للنزاعات المسلحة وهدفاً لها.

نظرة عامة على الصراعات في السودان

ثمة نوعان رئيسيان من النزاعات يعاني منهما السودان. يتعلق الأول بالنزاعات الإقليمية على طول حدود البلاد، أما الثاني فسببه التوترات العرقية بين الجماعات البدوية والتي عادة ما تتفاقم بسبب النزاعات على الماشية والمراعي. وعادة ما تنشب النزاعات في الحالتين بسبب خلافات على الموارد المائية المشتركة، وتتفاقم لندرة المياه في المناطق المتصحرة في السودان.

وقد نشبت الحرب الأهلية الأخيرة بين الشمال والجنوب لعدة أسباب من بينها خلاف سببته قناة جونقلي. إذ لم يراع تخطيط القناة مصالح الناس على طول القناة المقترحة وفي الجنوب، وقد توقف المشروع عام 1983 بعد اندلاع الصراع بين الشمال والجنوب.

المياه في السودان
الخريطة 1: مستنقعات السُدّ (بالأزرق) ومشروع قناة جونقلي الملغى (بالأحمر) في جنوب السودان. المصدر: Fanack Water

ومن ناحية أخرى، فعادة ما تؤدي النزاعات المسلحة في السودان إلى تعطل أنظمة المياه اللازمة للوفاء باحتياجات الناس والبيئة. وقد ظلت الولايات المتضررة من النزاعات عاجزة طوال عقود عن استغلال الموارد المائية الاستغلال الأمثل. وفي ظل سوء إدارة الموارد المائية وضعف المؤسسات، فقد عجزت حكومات تلك الولايات عن تطوير القدرات الكافية لإدارة مواردها المائية في أثناء إعادة الإعمار.

ويشير تقرير لبرنامج الأمم المتحدة للبيئة إلى أن العنف في عديد من ولايات السودان يدفع بالناس إلى الجماعات المسلحة باعتبارها ملاذاً أخيراً في ظل غياب حكومات محلية مدنية تستعيد زمام السلطة في شتى أنحاء البلاد. ومن شأن ذلك أن يزيد التنافس على الموارد الطبيعية، الذي يؤدي بدوره إلى زيادة الهجرة والنزوح.

ورغم توقيع عديد من اتفاقيات السلام، وتحديداً اتفاق جوبا للسلام عام 2020، فما تزال كثير من ولايات السودان تعاني من الاضطرابات، لا سيما في ولايات دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق. وقد شهدت تلك الولايات نزاعات بسبب الصراع على السلطة والثروة وتقاسم الموارد الطبيعية، وهي كلها ملفات لم تعالجها اتفاقيات السلام على النحو المنشود.

أزمة المياه في الولايات المتضررة من النزاعات

قد تمزقت دارفور في غرب السودان بسبب الصراع على المراعي وندرة المياه. وقد تفاقمت أزمة المياه في شمال كردفان والولايات الغربية الأخرى بعد وصول النازحين من دارفور وجنوب كردفان وغربها هرباً من العنف. وعلاوة على ذلك، فقد أجبر الجفاف والتصحر كثيراً من سكان الجزء الشمالي من الولاية على تركها والبحث عن ملاذ آخر.

وفي شرق السودان، فقد عانت منطقة البطانة من الجفاف طوال عقود. وفي عام 2019، قد قطع المجلس العسكري الانتقالي إمدادات المياه، فاندلع خلاف في مدينة القضارف بين جماعتين على المياه العذبة. وسرعان ما تحول الخلاف إلى صراع عرقي على خلفية التباينات العرقية بين الجماعتين، وهو ما أفضى إلى وفاة شخص وإصابة آخرين.

وفي العام الماضي، قد شهدت ولاية كسلا الشرقية المعروفة بالتنوع العرقي نزاعاً على أحد مشروعات المياه، وقد نشبت صراعات عديدة من قبل في الولاية بسبب خلافات على الموارد الطبيعية منذ عقود. ولا يختلف حال ولاية النيل الأزرق عن الولايات الأخرى في جنوب السودان، إذ أن العنف العرقي يمثل مشكلة مزمنة في الولاية منذ توقيع اتفاق جوبا للسلام. ويحذر برنامج الأمم المتحدة للبيئة من أثر تلك النزاعات المتزايدة على إعاقة إمكانيات التكيف مع تغير المناخ في المجتمعات الأشد احتياجاً.

وتتجاوز أزمة المياه في السودان مسألة الوفرة إلى الجودة. إذ قد أدت الاشتباكات الأخيرة في الخرطوم إلى انهيار محطة معالجة المياه بالولاية، فاضطُرت العائلات إلى استخدام مياه النيل غير المعالجة للشرب والأغراض أخرى.

تدخلات

قد تأسست مبادرات ومشروعات عدة في السودان بغرض المساعدة في حل الصراعات. فعلى سبيل المثال، قد أعلن الاتحاد الأوروبي تمويل مشروع وادي الكوع لحصاد المياه (2013- 2017)، وقد أشرف عليه برنامج الأمم المتحدة للبيئة بالشراكة مع منظمة “براكتيكال أكشن” والمجتمعات المحلية وحكومة ولاية شمال دارفور. وقد نجح المشروع في تحسين الأمن الغذائي والإنتاجية الزراعية ومعيشة الناس بشكل عام. كما قد خفف المشروع من حدة التوترات واندلاع النزاعات بين المجتمعات التي تتقاسم الموارد الطبيعية الشحيحة، لا سيما تلك الخلافات التي تندلع بين الرعاة والمزارعين.

وقد واجهت بعض المشروعات تحديات لم تكن في الحسبان عندما بدء تنفيذها. ومثال على ذلك مشروع “زيرو عطش” الذي أُعلن عنه في الولايات الفقيرة بغرض تطوير آلية لتنفيذ مشروعات حصاد المياه وتخفيف الضغط على نهر النيل. ولكن المشروع قد فشل في مراعاة كل الأطراف المعنية، ومن ثمّ فقد واجه معارضة من بعض الولايات الأخرى. وقد عُلّق المشروع عام 2019 بدعوى الأزمة الاقتصادية التي منعت بنك السودان المركزي من سداد المستحقات الدورية. وبناءً على ذلك، فقد توقف المانحون العرب عن تمويل المشروع.

المياه السودان
الصورة 2: صورة لحفير جُهّز لحصاد المياه في ولاية شمال كردفان. المصدر: https://infonile.org/en/2022/09/sudan-water-harvesting/

الصراعات وفجوة العرض والطلب

عادة ما تنشب النزاعات على المياه في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا بسبب فجوة كبيرة بين العرض والطلب على المياه. ورغم الطلب المتزايد على المياه في السودان، فإن كثيراً من النزاعات لا تنشب بسبب ندرة المياه فحسب، بل كذلك بسبب سوء الحوكمة وانعدام كفاءة المؤسسات وغياب أي تعريف واضح للمسؤوليات والصلاحيات.

وقد نتج عن انعدام كفاءة المؤسسات وضع تقديرات لا تتناسب مع الطلب على المياه. وقد أدى ذلك الفشل إلى إجراء دراسات متناقضة وغير مجدية نتجت عنها خطط عبثية لا يُعتمد عليها، فضلاً عن سوء تخصيص موارد المياه.

وعلاوة على ذلك، فيعاني قطاع المياه في السودان من استنزاف الكفاءات ونقص الموظفين المؤهلين القادرين على تخطيط الموارد المائية وإدارتها [1]. وقد أدى الاضطراب السياسي وتبدل الموظفين إلى الحد من الذاكرة المؤسسية والقدرة على إدارة القطاع.

ومن الناحية القانونية، فلا تُوجد قوانين تنظم إدارة المياه أو تسند دوراً تنظيمياً إلى وزارة الري والموارد المائية. كما يفتقر السودان إلى سياسة مائية واضحة، ولا يُوجد في القانون السوداني حالياً إرشادات توضح طريقة إدارة الموارد المائية بكفاءة وإنتاجية وعلى نحو مستدام.

وإذا نظرنا إلى قانون الموارد المائية لسنة 1995، وكذلك مسودة سياسة الإدارة المتكاملة للمياه لعام 2007، فسوف نجد عدة ثغرات قد أدت إلى تدهور قطاعي الزراعة والمياه خلال العقود الماضية. ويمكن نسب تلك الثغرات إلى غياب السياسات والاستراتيجيات الكلية الشاملة التي أدت إلى قلة الاستثمارات والبحوث والبرامج المنوط بها بناء القدرات، فضلاً عن نشوب الصراعات الداخلية وشيوع الاضطرابات، وتحديداً في المراكز الزراعية الغربية والشرقية.

وإن من أهم أسباب الصراعات على المياه غياب أي خطة تراعي أولويات الطلب على المياه، لا سيما بين المجتمعات المتنازعة والمختلفة عرقياً. ونادراً ما يلجأ المتنازعون إلى الحوار لحل خلافاتهم والتوفيق بين مصالح كل الأطراف.

كما تنشب النزاعات على المياه أيضاً نتيجةً لرغبة المجتمعات المحلية في إنجاز مشروعات تحقق نتائج ملموسة في زمن قصير. إذ تبحث زعامات القبائل عن انتصارات سياسية فورية تعزز سلطتها في مناطقها. ولكن الضغط من أجل تنفيذ المشروعات يؤدي إلى مزيد من النزاعات بخصوص حق الملكية. وتزداد المشكلات الناتجة عن هذا الوضع من خلال تهميش الأقليات، إذ تخشى زعامات القبائل من فقدان السلطة إن قبلوا بمشاركة غيرهم في التخطيط لموارد المياه وإدارتها. وبطبيعة الحال، فتتأثر موازين القوى بين الجماعات المختلفة وشتى الجهات الحكومية بالتغيرات التي تطرأ على السياق السياسي العام.

المياه في السودان
الخريطة 2: الأنهار دائمة الجريان والموسمية في السودان. المصدر: Fanack Water

الموازنة بين السلام والبنية التحتية للمياه

تساهم البنية التحتية للمياه في تحقيق الاستقرار بالولايات الهشة والمنكوبة، كما تقلل الصراعات وتعزز شعور السكان بالأمن ويُستعاد بفضلها إمكانية السيطرة على الأسواق من خلال بسط سلطة الدولة.

ومع ذلك، فقد تتحول تلك البنية التحتية لتصبح هدفاً في النزاعات باعتبارها رمزاً لسلطة الدولة ووسيلة تسهل بسط السيطرة العسكرية. وفي المناطق المعرضة للصراعات، تؤدي استراتيجية الأرض المحروقة إلى تفاقم تدهور البنية التحتية الأساسية، ليصبح الناس عرضة للمجاعة والمرض والتشرد وتتقطع بهم سبل العيش. وعلاوة على ذلك، فإن تعطيل الخدمات العامة عن قصد أو من خلال تدمير مرافق المياه يُعد استراتيجية يلجأ لها النظام الحاكم أو الأطراف المتنازعة من أجل الانتصار على الجماعات المناوئة لها.

وقد أدت المشروعات التي مولتها كثير من المنظمات والوكالات في غرب السودان إلى إشعال الصراعات الاجتماعية في عديد من الولايات، إذ تدّعي كل جماعة ملكيتها للأرض وموارد المياه. ولذلك، فيجب التزام الحرص والحذر في اختيار الموقع المناسب لتدشين مشروعات البنية التحتية للمياه، فضلاً عن مراعاة سياق الصراعات في المناطق المختلفة.

خاتمة

تسلط أزمة المياه في السودان الضوء على العلاقة ما بين إدارة الموارد والاضطراب السياسي والصراع الاجتماعي. ورغم كل تلك المعوقات، فثمة حلول يمكن التوصل إليها من خلال تطوير استراتيجيات شاملة وطويلة الأجل تراعي تعقيدات النسيج الاجتماعي للشعب السوداني. فالإدارة الجيدة للمياه لا تتوقف على تطوير البنية التحتية فحسب، بل يلزم كذلك الاهتمام بالأسباب الجذرية للصراع التي ترتبط بالاختلافات العرقية والنزاعات على الأراضي والقضايا المتعلقة بتوزيع الموارد.

ويمكن حل الأسباب الجذرية للصراعات من خلال تعزيز القدرات المؤسسية، والاعتماد على سياسات مستدامة في إدارة المياه، فضلاً عن إحكام الأطر القانونية. ويمكن أيضاً أن تساهم الحوارات المجتمعية بدور فعال في ما يتعلق بمعالجة الانقسامات العرقية، وتشجيع التعاون بين مختلف الأطياف وجعل الوفاء باحتياجات الناس من المياه أولوية للجميع، ومن ثمّ التخفيف من حدة الصراع.

وأخيراُ، فيجب على السودان الاعتماد على مبادئ “البنى التحتية من أجل السلام” حتى يتمكن من التغلب على لعنة الموارد وتكون كل خطوة نحو تنمية الموارد بمثابة مبادرة جديدة تساهم أيضاً في تحقيق استقرار دائم ومستدام. وتُعد رحلة الشعب السوداني رمزاً لتحديات مختلفة تتشابك فيها مسائل النزاع وتغير المناخ وإدارة الموارد. ولهذه الأسباب، فقد أصبحت تلك الرحلة تحمل في طياتها دروساً قد تستفيد منها الدول الأخرى التي تمرّ بأوضاع مشابهة.

[1] Ministry of Irrigation and Water Resources (2021). Sudan Water Sector Livelihoods Transforming Strategy (2021-2031). Khartoum, Sudan: Ministry of Irrigation and Water Resources.