بقلم: إيدا مينبرج، جوليان شيلينجر
يعدّ بناء السلام البيئي أحد مجالات البحوث والإجراءات العملية والتي يتم اتخاذها عند تقاطع السلام والنزاعات والبيئة، ويتناول قضايا مثل دور الموارد الطبيعية في تأجيج النزاعات وتمويلها، والإمكانات التي يتمتع بها النشاط البيئي لتعبئة المجتمعات، وفرص بناء الثقة وصنع السلام من خلال إدارة الموارد المشتركة.
وقد جمع المؤتمر الدولي الثاني لبناء السلام البيئي، في الفترة ما بين 1 إلى 4 فبراير 2022، أكثر من 2000 شخص لتقييم العمل الحالي في بناء السلام البيئي ومناقشة مساهمته في مجال التنمية المستدامة الأكبر. وقد استضافت جمعية بناء السلام البيئي والمعهد العالي للدراسات الدولية والإنمائية في جنيف المؤتمر والذي تم عن بُعد، وشارك فيه أكثر من 350 متحدثاً من 66 دولة، موفراً منصةً لتبادل المعارف والتعلّم من الخبرات المختلفة حول العالم.
وخلال المؤتمر، فقد نوقشت قضايا المياه والبيئة في الشرق الأوسط في عدة جلسات؛ لاستكشاف الدور الذي يمكن أن يلعبه بناء السلام البيئي في مواجهة تحديات المياه الإقليمية.
الآلية المشتركة لجمع البيانات والعمل الاستباقي لإدارة المياه العابرة للحدود
على مدار جلستين، قد نوقشت الفرص والتحديات حول التعاون في مجال المياه العابرة للحدود في أحواض أنهار السند وميكونغ والأمازون والأردن، مع التركيز على الدبلوماسية العلمية والبيئية والعمل الاستباقي، حيث قد سلطت الجلستان الضوء على العوائق المختلفة المتعلقة بانعدام الثقة بين دول المشاطئة وأهمية جمع البيانات التشاركية.
فقد أشار كلٌ من كلايف ليبشين وشارون بنهايم، بالاعتماد على عملهما في حوض نهر الأردن مع معهد وادي عربة للدراسات البيئية، إلى أن انعدام الثقة وغياب دبلوماسية المياه الرسمية (من حكومة إلى حكومة) بين إسرائيل وسوريا ولبنان يعيقان التعاون في إدارة المياه. كما أن العمليات والاتفاقيات الرسمية الحالية ليست كافية، فعلى سبيل المثال، فإن عدم وجود اتفاق شامل بشأن مراقبة تدفق المياه بين إسرائيل وفلسطين يحد من إمكانيات إدارة المياه العابرة للحدود والتي تعتمد على البيانات.
أما على المستوى المحلي، فإن الافتقار إلى بيانات المياه وهياكل الإدارة المناسبة يؤدي إلى تفاقم القضايا البيئية القائمة. وبناءً على حالة من الضفة الغربية، حيث تواجه المجتمعات مشاكل تتعلق بجودة المياه مثل المياه الجوفية قليلة الملوحة ومعالجة مياه الصرف الصحي، فقد أكد ليبشين على إمكانات المشاركة الشعبية في البحث العلمي (أو ما يُعرف بعلم المواطنين) والإدارة على صعيد المجتمع المحلي؛ حيث تسمح التقنيات الجديدة بمراقبة جودة المياه على المستوى المحلي وإعادة استخدام مياه الصرف الصحي على نطاقٍ محدود. ينبغي دمج كلا من هذين الحليّن في هياكل إدارة المياه اللامركزية لتمكين المجتمعات من مواجهة تحديات المياه الخاصة بهم بشكلٍ فعال.
الدبلوماسية المائية وأهمية جودة المياه
وقد ألقت الجلسة التي عقدتها الشراكة بين الجامعات للتعاون في مجال المياه والدبلوماسية الضوء على آخر التطورات في مجال الدبلوماسية المائية، مع التركيز على ضرورة النظر في جودة المياه وتأثيراتها المتعددة على تطوير التعاون وحل النزاعات. و أن تدهور جودة المياه يؤثر على مجتمعات الأحواض في جميع أنحاء العالم، مما يرافقها تداعياتٍ خطيرة على المياه والأمن الغذائي والصحة البيئية. وبناءً على ذلك، فقد تم التأكيد بشكلٍ متزايد على جودة المياه في اتفاقيات المياه العابرة للحدود والتي يمكن أن توفر فرصاً للعمل المشترك للتخفيف من المخاطر. ومع ذلك، ولتحقيق هذه الإمكانات في الشرق الأوسط، فيجب أن تشمل اعتبارات جودة المياه كلاً من موارد المياه السطحية والجوفية، حيث إن المياه الجوفية ما زالت غير ممثلةٍ كما يجب في الاتفاقيات الدولية.
وبالنظر إلى استغلال المياه في السياسة، فقد تمت مناقشة حالة سد الصداقة بين تركيا وسوريا على نهر العاصي في الجلسة نفسها. وقدمت هانا هيلبرت وولف الديناميكيات السياسية التي قد أدت إلى المفهوم الأولي للسد، محددةً التعاون الدولي والقضايا الأمنية بكونها المحركات الرئيسية. وقد أدت هذه المحركات إلى فرصةٍ قصيرة الأجل للتعاون في الفترة ما بين عام 1998 و2011، عندما كان التعاون بين تركيا وسوريا في أوجه والتوترات المتعلقة بالمياه منخفضة نسبياً. ويُظهر المشروع البحثي في جامعة جنيف أهمية تقييم القضايا المتعلقة بالمياه جنباً إلى جنب مع المصالح الأمنية المحلية والدولية لبلدان المشاطئة لتحديد فرص التعاون.
“الصفقة الخضراء الزرقاء” لتقاسم المنافع عبر الحدود والحوار
كجزءٍ من حملتها التوعوية التي حملت عنوان “الصفقة الخضراء الزرقاء للشرق الأوسط،” فقد استضافت مؤسسة إيكوبيس إحدى جلسات المؤتمر حول إمكانية تقاسم المنافع عبر الحدود فيما يتجاوز قضية المياه في حوض نهر الأردن. ففي ظل تأثيرات تغير المناخ الإقليمي والخسارة الوشيكة لسُبل العيش، فإن هذه المبادرة تدعو إلى اتخاذ إجراءات في أربعة مجالات رئيسية: (1) تبادل المياه المحلاة لإنتاج الطاقة الشمسية بين إسرائيل وفلسطين والأردن، بناءً على الأصول الطبيعية والجغرافية لكل بلد (2) إعادة تأهيل نهر الأردن وتنوعه البيولوجي الغني سابقاً باعتباره الناقل الرئيسي للمياه (3) تغيير نموذج إدارة المياه وإحراز تقدم في إعادة توزيع المياه بين إسرائيل وفلسطين (4) برنامج للتوعية العامة والتثقيف حول دبلوماسية المرونة في مجالي المياه والمناخ كوسيلة لبناء السلام وحل النزاعات. وقد جادل المقدمان ندى مجدلاني ويانا أبو طالب بأن “الصفقة الخضراء الزرقاء” المتوخاة يمكن أن تخلق تحالفاتٍ استراتيجية بين الدول؛ للحد من فقدان سُبل العيش ومعالجة التحديات البيئية، ولتكون بمثابة أداةٍ للحوار العابر للحدود.
تمكين النشاط البيئي الإقليمي
في ظل غياب المبادرات البيئية الفعالة بقيادة الحكومة، فأن منظمات المجتمع المدني تلعب دوراً رئيسياً في تمكين بناء السلام البيئي، وبناء الثقة بين المجتمعات، ومعالجة القضايا البيئية المحلية. ومع ذلك، فلا يخلو النشاط البيئي من التحديات والمخاوف الأمنية، كما صرح بذلك العديد من النشطاء من جميع أنحاء العالم في جلسةٍ حول موقف المدافعين عن البيئة.
وبناءً على تجارب جمعية حُماة نهر دجلة في العراق، فقد تحدث سلمان خير الله عن التحديات التي يواجهها النشاط البيئي في سياق توريق الموارد الطبيعية؛ على سبيل المثال عند معالجة التلوث الناجم عن صناعة النفط العراقية. وفي الوقت نفسه، فقد أشار إلى أنه عندما يتعلق الأمر بالنشاط في البيئات غير المستقرة سياسياً فإن القوة والأمان تكمنان في كثرة العدد، كما قد سلط الضوء على مساهمات حملة “أنقذوا دجلة“ للنشاط العابر للحدود في حوض الفرات ودجلة. ومع ذلك، فإن الدعوة إلى التعاون الإقليمي ليس بالأمر السهل دوماً. وتماماً كما يحصل دوماً مع مؤسسة إيكوبيس أثناء عملها في حوض نهر الأردن، فقد تم انتقاد مبادراتها لبناء السلام عبر الحدود باعتبارها تطبيعاً للوضع الراهن والاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية. وعليه، فإن تحقيق التوازن بين بناء السلام البيئي المحلي والإقليمي ومخاطر الاضطهاد أو النبذ الاجتماعي لا يزال يمثل تحدياً للمجتمع المدني في أجزاء من الشرق الأوسط.
التعاون في المناطق المتضررة من النزاعات
مع وجود العديد من النزاعات المسلحة المستمرة في المنطقة، فإن الحفاظ على إدارة المياه وتوفير الخدمات الأساسية أثناء النزاع يعدّ أمراً بالغ الأهمية لدعم سُبل العيش والصحة العامة وتقليل الأضرار البيئية. وعليه، فقد عقدت جامعة توينتي جلسةً جمعت بين الباحثين والممارسين العاملين في الشرق الأوسط بهدف تقييم الوضع الحالي للمعارف حول إدارة المياه في الأماكن المتضررة من النزاعات إلى جانب مناقشة الحاجة إلى تحسين التعاون وبناء المعرفة المشتركة.
وبالنظر إلى الطبيعة المطولة للنزاعات في المنطقة، فقد أكد غيوم بيريهمبرت من اللجنة الدولية للصليب الأحمر أن التدخلات الإنسانية قصيرة المدى لم تعد كافيةً لتلبية الاحتياجات المحلية المتعلقة بالمياه. ونظراً لأن الحدود بين مساعدات الطوارئ ومساعدات التنمية غير واضحة المعالم، فيتعين على الجهات الفاعلة المحلية والدولية ذات الصلة تعزيز تعاونهما لضمان الوصول إلى خدمات المياه على المدى الطويل؛ إذ يشمل هذا دعم قدرة مقدمي الخدمات المحليين على الصمود، بما في ذلك منظمات المجتمع المدني المحلية ذات المعرفة الوثيقة بالقضايا البيئية والمائية المُلحة.
كما قد تم تسليط الضوء على تحسين التعاون بين الباحثين والممارسين، فضلاً عن مشاركة البيانات من قبل جميع الجهات الفاعلة المشاركة باعتبارها خطواتٍ مهمة نحو إنشاء قاعدة معرفية مشتركة حول إدارة المياه في الأماكن المتأثرة بالنزاع.
التحديات والفرص لبناء السلام البيئي
قد عززت الجلسات المختلفة للمؤتمر الدولي الثاني لبناء السلام البيئي فكرة أن المياه يمكن أن تكون أداة قوية للجمع بين الشعوب، وأن موارد المياه العابرة للحدود تؤدي إلى التعاون بين الدول بشكلٍ متكرر على نحوٍ أكبر من النزاع حولها. وعلى جميع المستويات، فيمكن للدول والمجتمعات المجاورة على حد سواء إيجاد أرضية مشتركة لمواجهة التحديات المشتركة مثل التأثيرات المناخية الإقليمية والتدهور البيئي. وعلاوةً على ذلك، فيمكن أن يوفر بناء السلام البيئي إطاراً لمواجهة هذه التحديات في سياق العمليات البيئية والجيوسياسية الأوسع، وربطها بالقضايا المجتمعية الرئيسية الأخرى مثل تمكين المجتمع والعدالة البيئية والمساواة بين الأنواع الاجتماعية وتمثيل الشباب.
وفي الوقت نفسه، تتطلب عمليات بناء السلام البيئي عملاً دؤوباً وإعادة تقييمٍ مستمرة للممارسات الحالية. وخلال المؤتمر، قد أكد المتحدثون على أهمية المشاركة المجتمعية الواسعة والعمل القائم على الأدلة، وكذلك الحاجة إلى التعلم من النجاحات والإخفاقات السابقة. كما يعد بناء قاعدة معرفية حول بناء السلام البيئي في المنطقة خطوةً مهمة لإحراز هذا التقدم. وعليه، فيعتبر دليل الورقة البيضاء المعنون “النظام البيئي من أجل السلام” حول بناء السلام البيئي، والذي قد تم إطلاقه خلال المؤتمر، مثالاً على مثل هذا التبادل للدروس المستفادة، بما في ذلك العديد من المدخلات من الشرق الأوسط.
ويلعب المجتمع المدني دوراً رئيسياً في عمليات بناء السلام البيئي، سواء اتخذ ذلك شكل حملات المناصرة من قبل المنظمات غير الحكومية على مستوياتٍ مختلفة، أو تحركاتٍ على أرض الواقع بقيادة المجتمع المحلي. وهذا هو واقع الحال في حالات الخلافات السياسية أو النزاعات بين البلدان؛ حيث يمكن للمجتمع المدني بناء الجسور بين الشعوب على الرغم من جمود العمليات السياسية. فقد باتت مثل هذه الخبرات المتمحورة حول مثل هذه البيئات التي اكتسبها النشطاء البيئيون في حوض نهر الأردن بالتحديد مرغوبةً من قبل زملائهم من بناة السلام البيئي من جميع أنحاء العالم، مما يشير إلى اهتمامهم بتعلم الدروس من الشرق الأوسط.