مياه الشرق الأوسط وشمال أفريقيا

أزمة المياه في سوريا: تقييم التقاطع بين تغير المناخ والمصالح الجيوسياسية

نهر الفرات - أزمة المياه في سوريا
الصورة 1: رجل سوري يسير وسط جفاف وانخفاض منسوب المياه في نهر الفرات بريف الطبقة الغربي بمحافظة الرقة السورية، في 22 تشرين الثاني 2022. Delil SOULEIMAN / AFP

الكاتب: نينو أورتو

اشتدت أزمة المياه في سوريا وما يترتب عليها من عواقب وخيمة بسبب تغير المناخ وأنماط الطقس التي صار من الصعب التنبؤ بها. وساهمت النزاعات المستمرة في تدمير البنية التحتية التي كانت توفر خدمات المياه والصرف الصحي وتحفظ النظافة العامة. وفوق ذلك كله، جاءت الأزمة الاقتصادية وجعلت المياه على كثير من الناس.

حذّرت الأمم المتحدة من أن موجات الجفاف في منطقة البحر المتوسط ستزداد طولاً وشدّة، بينما اعتبر المؤشر العالمي لمخاطر الصراع لعام 2022 سوريا أكثر البلاد عرضةً للجفاف في منطقة البحر المتوسط. ويضع تأثير تغير المناخ ضغطاً هائلاً على خزانات المياه والأنهار. إذ أصبح الحصول على مياه صالحة للشرب يشكّل تحدياً لملايين السوريين. وهكذا، تضافر عاملان للحيلولة دون تطوير شبكة إمدادات مياه ناجعة، وهما الأزمة الإنسانية الناتجة عن الحرب المستمرة منذ أكثر من عشرة أعوام، فضلاً عن الحدود الجيوسياسية التي رسمتها الأطراف المحلية والإقليمية. فما الذي يحمله المستقبل لمصادر المياه في سوريا في خضم هذا الوضع المضطرب؟

الوضع المائي في سوريا

تستمد سوريا مياهها العذبة من نهر الفرات، وهو المصدر الرئيسي وأحد أشهر الأنهار في الشرق الأوسط، بالإضافة إلى نهر دجلة، أحد أكبر الأنهار في غرب آسيا. ينبع الفرات من تركيا ويمرّ بسوريا والعراق ثم يصبّ في الخليج العربي. وقد انخفض منسوب الفرات انخفاضاً كبيراً في العقدين الماضيين. وتأثرت سوريا تأثراً مباشراً جرّاء ذلك الانخفاض، فنقصت المياه الصالحة للشرب والزراعة أو لتشغيل محطات الطاقة الكهرمائية، وكلها قطاعات حيوية.

وأشارت الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية إلى أن حالات الجفاف الشديد، التي كانت نادرة فيما مضى وتستمر لعدة سنوات، زاد احتمال حدوثها مرتين إلى ثلاث مرات بسبب الاحتباس الحراري وما نتج عنه من تداعيات. وأضاف تقرير الوكالة أنه “من المتوقع أن ينخفض الجريان السطحي للأنهار مع انخفاض هطول الأمطار على الجبال في تركيا وسوريا، ما يعني زيادة الاعتماد على المياه الجوفية ومياه الأمطار”.

ومنذ عام 2000، أدى الاستغلال المفرط لموارد المياه العذبة، وزيادة تلوث المياه، وسوء معالجة المياه العادمة، فضلاً عن انتشار ظاهرة التصحر، إلى تفشّي التدهور البيئي في سوريا.

وأوضحت دراسات عديدة أُجريت بين عامي 2000 و2010 أن الحكومة السورية فشلت في إدارة الطلب المتزايد على المياه في ظل ما تعانيه البلاد من تغير المناخ وتكرر الجفاف.

وقبل عام من اندلاع الحرب عام 2011، كان بإمكان نحو 98% من سكان المدن الوصول إلى مصادر مياه صالحة للشرب، بينما كانت النسبة أقل قليلاً في المجتمعات الريفية. أما اليوم، فإن نسبة ما يعمل بكفاءة من الخدمات والبنية التحتية المتعلقة بشبكة المياه والصرف والنظافة العامة لا تتجاوز 50%. إذ أدت أنظمة الري المكثف والأساليب غير الفعالة إلى هدر المياه، وكان لذلك دور محوري في أزمة المياه بسوريا. وتفاقم الوضع بسبب ارتفاع معدل التبخر السطحي الذي تسبب في خسارة 2.2 مليار متر مكعب من مخزون المياه الطبيعي.

وتسبب الزلزال الضخم الذي ضرب سوريا في 6 فبراير 2023 في الإضرار بالبنية التحتية للمياه المتهالكة أصلاً، وأثّر تأثيراً كبيراً في الخدمات المتعلقة بنظام شبكة المياه والصرف والنظافة العامة.

المياه في سوريا
الصورة 2: أناسٌ يملأون أوعيةً بلاستيكيةً بالمياه من خزان مياه في مدينة الحسكة شمال شرق سوريا في 11 يونيو 2023. أدى بناء السدود في البلدان المجاورة وآثار تغير المناخ إلى خفض تدفق المياه بشكل كبير في سوريا، مما أدى إلى تعطيل الزراعة وتهديد سبل العيش وسط التحديات الاقتصادية المستمرة. المصدر: Delil SOULEIMAN / AFP

بلد منكوب بالصراعات وتغير المناخ

أفاد كريستوف مارتن، رئيس بعثة اللجنة الدولية للصليب الأحمر في سوريا، أن مرافق المياه الثمانية الرئيسية الصالحة للشرب في البلاد قد تضررت من الحرب. ولأن هذه المرافق تعمل في شبكة مركزية وضخمة بطبيعتها، فقد “تدهورت على مدار العقد الماضي نتيجة الفشل في إجراء متطلبات التشغيل والصيانة، ونقص قطع الغيار والموارد البشرية”، بحسب ما أضافه مارتن.

وفي بعض المناطق المعرضة للجفاف والخاضعة لسيطرة الإدارة الذاتية الكردية لشمال وشرق البلاد، انخفضت تدفقات مياه نهر الفرات انخفاضاً حاداً، ويمكن أن يتحول ذلك إلى تهديد وجودي لملايين البشر الذين يعتمدون على مياه النهر.

أما في شرق ريف الرقة، فقد انحسرت بحيرة الأسد وانخفض منسوب مائها بمقدار ستة أمتار منذ عام 2020، ما يهدد المصدر الوحيد لمياه الشرب النظيفة لأكثر من خمسة ملايين شخص.

وفي الحسكة، عانى نحو مليون شخص خلال العامين الماضيين من نقص المياه بسبب الانقطاع المتكرر في محطة علوك التي تقع تحت سيطرة الحكومة التركية.

يفتقر الناس في المناطق التي تسيطر عليها الحكومة السورية إلى إمدادات المياه من خطوط الأنابيب، ويعتمدون على مصادر بديلة مثل المياه التي تنقلها الشاحنات أو مصادر أخرى خطرة. كما أن نحو 6.9 ملايين شخص ينقطع عنهم مصدر المياه الطبيعي إلا ما بين يومين أو سبعة أيام على أقصى تقدير في كل شهر.

ونتيجةً لتلوث مياه الفرات، سجلت الجهات المختصة في الفترة ما بين 25 أغسطس و26 نوفمبر 2022 أكثر من 50 ألف حالة اشتباه بمرض الكوليرا و98 وفاة في دير الزور ثم الرقة وحلب قبل أن تنتشر في أنحاء البلاد. وأشارت منظمة أطباء بلا حدود إلى زيادة احتمالية تفشي الكوليرا على إثر الانخفاض المتواصل في منسوب مياه نهر الفرات والطرق الخطرة التي يلجأ إليها الناس لتوفير المياه.

خلال كلمته التي ألقاها أمام مجلس الأمن في 23 مارس 2023، أكّد طارق تلاحمة، القائم بأعمال مدير قسم العمليات والمناصرة بمكتب تنسيق الشؤون الإنسانية، على أن الضغوط التي يعانيها السوريون لا يبدو أنها ستخف وطأتها مع “تضاعف أسعار الغذاء تقريباً خلال العام الماضي، وشحّ المياه في كثير من أنحاء البلاد، ونقص الأرزاق”. كما أشار تلاحمة إلى ضرورة مراقبة الوضع الصحي العام في البلاد.

كما تسبب انخفاض مخزون المياه في سدود الطبقة وتشرين والبعث على الفرات في انخفاض الإنتاج الزراعي لأكثر من 192,225 هكتاراً من الأراضي المروية في سوريا، ما نتج عنه خسارة المزارعين 80% من المحاصيل. ويعاني حالياً نحو 2.5 مليون شخص من انعدام الأمن الغذائي، كما تتزايد أزمة سوء تغذية الأطفال بسرعة غير مسبوقة.

المياه سلاحاً

وقّعت دمشق عام 1987 اتفاقية لتقسيم المياه مع تركيا، تعهدت فيها الأخيرة بتزويد سوريا بنحو 500 متر مكعب في الثانية سنوياً. ومع ذلك، انخفض القدر المتفق عليه إلى أقل من النصف عقب الجفاف الأخير عام 2021، ودرجات الحرارة المرتفعة في السنوات الخمس الماضية.

وتسيطر تركيا على أكثر من 90% من تدفقات الفرات و44% من المياه التي تصل إلى نهر دجلة، ما يمنح تركيا نفوذاً كبيراً في علاقاتها بسوريا. وعلاوة على ذلك، لطالما تجاهلت السياسة المائية التركية حقوق سكان سوريا في النهر. كما تستخدم أنقرة الفرات سلاحاً في تعاملها مع السوريين في شمال وشرق البلاد، إذ تحبس مياه النهر وتتاجر به لأغراض سياسية.

وفي أكتوبر 2019، سيطرت تركيا والقوات التابعة لها على محطة مياه علوك خلال هجوم عسكري في شمال شرق سوريا. واستخدمت تركيا محطة المياه منذ ذلك الحين في الضغط على السلطات الكردية والجماعات المتمردة التابعة للنظام، وهي جماعات تعتبرها أنقرة منظمات إرهابية وتستهدفها منذ سنوات.

وقد وجهت منظمة هيومن رايتس ووتش انتقادات متكررة لتركيا على دورها في أزمة المياه بسوريا. وقالت المنظمة الدولية إن “تقاعس السلطات التركية عن ضمان إمدادات مياه كافية لمناطق سيطرة الأكراد في شمال شرق سوريا يضر بقدرة المنظمات الإنسانية على تجهيز المجتمعات الضعيفة لحمايتها”.

ومن جهتها، استغلت دمشق المياه في السنوات الاخيرة في تحقيق أهداف سياسية غرضها إضعاف الفاعلين السياسيين في شمال البلاد الذين تعتبرهم تهديداً وجودياً لها.

أزمة المياه في سوريا
الصورة 3: رجل يقف بالقرب من مضخات لسحب المياه من بحيرة الأسد، في قرية التويحينة بالقرب من سد الطبقة على طول نهر الفرات في محافظة الرقة شرقي سوريا في 27 تموز 2021. تحذر مجموعات الإغاثة والمهندسون من كارثة إنسانية تلوح في الأفق في شمال شرق سوريا، حيث يهدد انخفاض منسوب المياه في السدود الكهرومائية منذ يناير في انقطاع المياه والكهرباء عن الملايين وسط جائحة فيروس كورونا والأزمة الاقتصادية. ويتهم كثيرون في المنطقة التي يسيطر عليها الأكراد تركيا الجارة والعدو اللدود بتسليح المياه من خلال تضييق الخناق على مجرى النهر. المصدر: Delil SOULEIMAN / AFP

مستقبل المياه في سوريا

بعد مرور أكثر من عقد على الحرب الأهلية في سوريا، ما تزال البلاد غارقة في أزمات سياسية وعسكرية واقتصادية وإنسانية لا يبدو أنها ستنفرج عما قريب. وقد ساهمت عوامل داخلية وخارجية في إطالة أمد الصراع، ولا يبدو أي من الأطراف المتصارعة مستعداً لإيقاف الدمار والفرقة التي تعانيهما البلاد.

بعد سنوات طويلة من سوء إدارة مصادر المياه طبيعية، صار الإصلاح الهيكلي ضرورياً لمعالجة أزمة ندرة المياه التي تعانيها سوريا.

للأسف، بالنظر إلى الوضع الحالي في سوريا وتدخل دول عديدة في شؤونها، سيكون من غير الواقعي توقع إجراء إصلاحات للإدارات المحلية والإقليمية على المدى القريب، كما هو مقترح في بلدان أخرى، لتسهيل الانتقال السريع نحو إدارة مستدامة وناجعة للمياه. وربما يكون الحل العمليّ والأنفع للمنطقة هو إبرام اتفاقية تقاسم لمياه نهر الفرات بين تركيا وسوريا والعراق، على أن تلتزم الاتفاقية قواعد الأمم المتحدة وغيرها من المنظمات الدولية.