مياه الشرق الأوسط وشمال أفريقيا

نُدرة المياه والاحتلال الإسرائيلي: كيف يفاقم تقسيم الأراضي الإجهاد المائي في فلسطين

الصراع الفلسطيني الاسرائيلي - ندرة المياه في فلسطين
الصورة 1: مزارعون فلسطينيون من قرية عزون عتمة، جنوب مدينة قلقيلية، يخرجون من البوابة الرئيسية لمستوطنة شاعر حتيكفا الإسرائيلية ويعودون إلى منازلهم بعد قطف الزيتون من مزرعة تقع داخل المستوطنة، في 20 أكتوبر 2020. المصدر: JAAFAR ASHTIYEH / AFP

“تنتشر خزانات المياه باللونين الأبيض والأسود على أسطح المنازل الفلسطينية في جميع أرجاء المدن والبلدات في الضفة الغربية، ليتم تعبئتها في الوقت الذي تجف به صنابير المياه لأسابيع حرفياً… ترفض السلطات الإسرائيلية منح التراخيص اللازمة لسلطات المياه الفلسطينية للعمل بحرية في المناطق المصنفة “ج،” الواقعة تحت السيطرة الأمنية والإدارية الإسرائيلية بالكامل، سواء كان ذلك بحفر آبار إضافية أو تركيب المضخات.”- الجزيرة، 2021

يعاني الفلسطينيون من سكان الضفة الغربية من نقصٍ حاد في المياه، ومع ذلك، فتشير البيانات إلى أن المشكلة لا علاقة لها لا بمناخ ولا بالمياه بحد ذاتها، إذ تقدر موارد المياه الجوفية المتجددة بـ 680 مليون متر مكعب سنوياً. وهذا يعني، من الناحية النظرية، توافر 600 لتر من المياه للفرد يومياً إذا ما قسّمناها على عدد السكان البالغ 3,1 مليون نسمة. في الواقع، يعدّ وصول الفلسطينيين إلى هذه الموارد محدوداً، مما يسفر عن صافي إمداد يبلغ 60 لتراً فقط للفرد يومياً في المناطق الحضرية. أما في المناطق الريفية، وتلك المصنفة بالمناطق “ج” (الخريطة 1)، فالرقم أقل من ذلك، حيث يقل استهلاك المياه عن 30 لتراً للفرد في اليوم في 150 تجمعاً في الضفة الغربية، أي أقل بكثير من الحد الأدنى البالغ 100 لتر في اليوم على النحو الموصى به من قبل منظمة الصحة العالمية.

أما في المستوطنات الإسرائيلية غير الشرعية في الضفة الغربية، فيغيب مشهد خزانات المياه عن أسطح المنازل تقريباً، إذ تتوافر المياه على مدار الساعة طوال الأسبوع للمستوطنين الإسرائيليين. وهنا تجدر الإشارة إلى أن أعداد المستوطنين تصل إلى 451,700 نسمة، أو أقل بقليل من سُدس إجمالي سكان الضفة الغربية ويستهلكون في المتوسط 400 لتر من المياه للفرد في اليوم. باختصار، لا يتمحور الإجهاد المائي الذي يعاني منه الفلسطينيون في الضفة الغربية حول نقص المياه، بل بسبب التوزيع غير العادل للمياه.

الضفة الغربية
الخريطة 1: تقسيم الأراضي في الضفة الغربية. المصدر: Human Rights Watch / Fanack water

تقسيم المناطق ودوره في التوزيع غير العادل للمياه

تتعدد أسباب التوزيع غير العادل وغير المنصف للمياه، إذ تزعم إسرائيل أن هناك نقصاً في المياه وتلقي باللوم على السلطة الفلسطينية في سوء إدارة الموارد المائية، بيد أن الأمم المتحدة والعديد من منظمات حقوق الإنسان تدحض هذا الأمر، مشيرة إلى أن تقسيم الأراضي وعدم تكافؤ ميزان القوى هو السبب الرئيس المعرقل للإدارة الفعالة للمياه. بادئ ذي بدء، فقد خسر الفلسطينيون سيادتهم لأول مرة على مواردهم المائية بعد حرب عام 1967، وفي عام 1982، قد تمت خصخصة جميع البنية التحتية للمياه التي يسيطر عليها الجيش الإسرائيلي وتسليمها إلى شركة المياه الإسرائيلية ميكوروت. وفي عام 1995، وكجزءٍ من اتفاقية أوسلو الثانية، قُسمّت الضفة الغربية إلى ثلاث مناطق إدارية تعرف باسم المناطق “أ” و”ب” و”ج،” حيث مُنحت إسرائيل السيطرة الكاملة على المنطقة “ج،” التي تضم أكثر من 60% من أراضي الضفة الغربية. ونظراً لكون الوصول إلى المياه مرتبط بالأرض، فقد بسط الإسرائيليون سيطرتهم على قطاع المياه في الضفة الغربية، إذ يتجلى ذلك في القيود المفروضة على البنية التحتية للمياه ومشاريع معالجة المياه وكذلك احتكار شركة ميكوروت. وبشكلٍ عام، فينعكس التوزيع غير العادل للمياه بالنقاط الثلاث التالية:

1. القيود المفروضة على حرية التنقل تعرقل وصول المياه للفلسطينيين

قد أدى تقسيم الأراضي الفلسطينية إلى تفكيك وعزل شبكة المياه في الضفة الغربية، إذ تُشير التقديرات إلى فاقد مائي يتجاوز ثلث إمدادات المياه، في حين يصل الفاقد المائي في بعض المدن إلى ما نسبته 50% بسبب التسرّب من شبكات المياه البالية والمُهملة، وعدم الدقة في حساب الاستهلاك، والوصلات غير القانونية. ويُشكل تقسيم الأراضي مشكلةً بالنسبة لإمدادات المياه في جميع المناطق الثلاث، حيث ينبغي أن تدمج الإدارة الفعّالة للمياه الاحتياجات المنزلية والزراعية والصناعية والبيئية، بيد أن هذا التكامل مجزأ من الناحيتين التشريعية والمادية. وكما يوضح الشكل (1)، فإن المنطقة “ج” تعزل المنطقتين “أ” و”ب،” مما يجعل من الصعب إدارة البنية التحتية للمياه الفلسطينية الموجودة في هذه المناطق. علاوةً على ذلك، يعيق هذا التقسيم مشاريع المياه في المنطقتين “أ” و”ب” ذلك أنها تتطلب إصدار تصاريح من السلطات الإسرائيلية للمرور عبر المنطقة “ج،” وبدوره يعطّل هذا مراقبة جودة المياه والبنية التحتية. وإلى جانب ذلك، يصعب أيضاً في ظل هذه الظروف صيانة البنية التحتية وإعادة تأهيلها بشكل فعّال بسبب القيود المفروضة على الحركة. ونتيجةً لهذا التشرذم، لا يملك 46 مجتمعاً فلسطينياً في المنطقة “ج” إمكانية الوصول إلى شبكة مياه (عاملة) حالياً. وعليه، يتعين على الأسر في هذه المجتمعات شراء المياه من الصهاريج، التي تتجاوز تكلفتها 400 ضعف تكلفة إمدادات المياه من الشبكة، فضلاً عن عدم إمكانية الاعتماد على الصهاريج كمصدرٍ للمياه بسبب التأخيرات الكبيرة التي تعرقل وصولها في الوقت المحدد لوجود الحواجز الإسرائيلية المتعددة التي يتعين عليها عبورها. أما فيما يتعلق بالفلسطينيين في المجتمعات النائية، المضطرون إلى التنقل لمسافات أطول للوصول إلى مصدر للمياه، فهم أكثر عرضة لهجمات المستوطنين.

المستوطنات الإسرائيلية
الصورة 2: مستوطنة هارحوما الإسرائيلية من خلال جدار خارج بيت لحم في الضفة الغربية. المصدر: Fanack Water

2. استهلاك المياه مقيّد للغاية

إن السبب الثاني لندرة المياه هو تشييد بُنية تحتية منقوصة لإعادة استخدام المياه بسبب رفض إسرائيل منح التصاريح. وكما ذكرنا آنفاً، تتهم إسرائيل الفلسطينيين بسوء إدارة مواردهم المائية المحلية، بما في ذلك الفشل في الحدّ من الفاقد المائي، وزيادة معدلات إعادة استخدام المياه. ففي الفترة ما بين عامي 1995-2008، قد تمت الموافقة على 58% فقط من طلبات التصاريح الفلسطينية لمشاريع معالجة مياه الصرف الصحي، بينما في المقابل، فقد تمت الموافقة على ما نسبته 96% من الطلبات الإسرائيلية. بالإضافة إلى ذلك، لم تُمنح أي تصاريح لبناء صهاريج أو خزانات مياه في المنطقة “ج،” كما لم تمنح لجنة المياه المشتركة سوى عدداً محدوداً فحسب من التصاريح لتشييد بنية تحتية جديدة للمياه أو إعادة تأهيل البنية التحتية القائمة. وفي الواقع، فقد تمت الموافقة على 50% فقط من جميع طلبات مشاريع البنية التحتية للمياه وإعادة التأهيل بين عاميّ 1995-2008. فعلى سبيل المثال، تشمل أسباب رفض طلب تصريح لحفر بئر ماء لكون مصدر الماء هذا سيلزم لمستوطنة غير شرعية في المستقبل، وفي المقابل، فقد تمت الموافقة على 100% من طلبات التصاريح من المستوطنات غير الشرعية في الضفة الغربية.

وفي الوقت الراهن، فإنه لا يوجد سوى محطة واحدة فقط لمعالجة مياه الصرف الصحي قيد التشغيل والتي تعالج ما نسبته أقل من 3% من مياه الصرف الصحي، بسبب رفض طلبات الحصول على تصاريح لبناء مرافق معالجة إضافية. وبسبب عدم منح التصاريح اللازمة، يعزف المانحون عن تقديم التمويل، ذلك أن أي بنية تحتية يتم بناؤها دون إذن معرضة لخطر الهدم من قبل الجيش الإسرائيلي، وعليه، نجد أن إعادة استخدام مياه الصرف الصحي المعالجة مقيّد للغاية. وعلى الرغم من أن زيادة كفاءة استخدام المياه هي بحد ذاتها تطور إيجابي، فإن الحديث عن المصادر البديلة والكفاءة الأعلى يصب في مصلحة إسرائيل، وبالتحديد، فيعني هذا الخطاب أن إسرائيل ليست مضطرةً للتعامل مع الصورة الأكبر والأكثر تعقيداً: تبسط إسرائيل قبضتها على حصةٍ غير عادلة من المياه، أي ضعف الحصة المتفق عليها في اتفاقية أوسلو الثانية بـ1,8 مرة.

3. احتكار شركة ميكوروت والتوزيع غير العادل

يتمثل السبب الثالث لندرة المياه في التوزيع غير المتكافئ للمياه في ظل احتكار شركة ميكوروت. تمنح ميكوروت الأولوية لإمدادات المياه المستمرة للمستوطنات الإسرائيلية غير الشرعية، وكثيراً ما تقطع إمدادات المياه عن الفلسطينيين خلال الصيف بنسبة تصل إلى 50%، تاركةً الأسر الفلسطينية دون ماءٍ لأيام. إن هذه المعاملة التمييزية إشكالية لعدة أسباب، إذ تحتكر الشركة شبكة المياه في الضفة الغربية، وفي الوقت نفسه، فقد أدى فرض العديد من القيود إلى زيادة اعتماد الفلسطينيين على إسرائيل في تلبية احتياجاتهم من المياه. ففي عام 2013، قد تم شراء ما يقرب من 50% من المياه التي تستهلكها المجتمعات الفلسطينية من شركة ميكوروت. ووفقاً لاتفاقيات أوسلو، فإنه يحق لسلطة المياه الفلسطينية الحصول على 31 مليون متر مكعب من المياه سنوياً من إسرائيل، إلا أنّ السُلطة تحصل على ما نسبته 75% فقط، في حين تضطر لشراء الباقي من ميكوروت.

الصراع الفلسطيني الإسرائيلي - ندرة المياه
الصورة 3: مزارعون فلسطينيون يقودون سياراتهم خلف لافتة تشير إلى بداية المنطقة (أ) الخاضعة لسيطرة السلطة الفلسطينية، في منطقة عطوف بالقرب من مستوطنة باقوت اليهودية في غور الأردن، في 18 يونيو 2020. المصدر: JAAFAR ASHTIYEH / AFP

تقسيم الأراضي يزيد الضغوطات على سُبل العيش للفلسطينيين

تظهر مدينتا قلقيلية وطولكرم كيف يؤثر الوضع المائي التمييزي والتشرذم في الضفة الغربية على سبل عيش الفلسطينيين. فبموجب اتفاقيات أوسلو فقد صُنّفت المدن كمنطقة “أ” لكن الأرض المحيطة بها تقع في المنطقة “ج” (الخريطة 2). وبالتالي، تُفرض قيودٌ على المزارعين الذين يعيشون في المنطقة “أ” ويمنعون من الوصول إلى البنية التحتية للمياه ولا يُسمح يتواجدهم بأراضيهم في المنطقة “ج” سوى لفتراتٍ زمنية محدودة. أما في المنطقة “ج،” فلا يستطيع الفلسطينيون صيانة أو إعادة تأهيل أو بناء أي بنية تحتية للمياه دون تصريح من السلطات الإسرائيلية، حيث أدى ذلك إلى: (1) الانقطاع المتكرر لإمدادات المياه للاستخدام المنزلي والزراعي لمدة تتراوح من يومين إلى ثلثي العام ؛ (2) تكاليف التشغيل الباهظة بسبب الإنفاق الكبير على الإصلاحات وارتفاع أسعار الوقود؛ (3) إمدادات المياه غير الكافية لتغطية احتياجات المجتمعات المحلية؛ و (4) اعتماد الأسر المتزايد على صهاريج المياه باهظة الثمن، مما يرفع تكاليف المعيشة. وقد أدت هذه المشكلات مجتمعة إلى ارتفاع أسعار المياه لدرجة أن 123 مزارعاً من المدن اضطروا إلى التخلي عن أراضيهم.

الضفة الغربية
الخريطة 2: قلقيلية وطولكرم في الضفة الغربية وتقسيم الأراضي. المصدر: Fanack water